فصل: تفسير الآية رقم (177):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآية رقم (164):

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
{إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية، ذكر فيها ثمانية أصناف من المخلوقات تنبيهاً على ما فيها من العبر والاستدلال على التوحيد المذكور قبلها في قوله: وإلهكم إله واحد {واختلاف الليل والنهار} أي اختلاف وصفهما من الضياء والظلام والطول والقصر، وقيل إن أحدهما يخلف الآخر {بِمَا يَنفَعُ الناس} من التجارة وغيرها {وَتَصْرِيفِ الرياح} إرسالها من جهات مختلفة، وهي الجهات الأربع، وما بينهما وبصفات مختلفة فمنها ملقحة للشجر وعقيم، وصر، وللنصر، وللهلاك.

.تفسير الآية رقم (165):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}
{والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين: إحداهما: المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة، والأخرى: المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربانيون، والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإن سائر مقامات الصالحين: كالخوف، والجراء، والتوكل، وغير ذلك فهي مبنية على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، وأن الراجي إنما يرجو منفعة نفسه؛ بخلاف المحبة فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة، واعلم أن سبب محبة الله معرفته فتقوى المحبة على قدر قوّة المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإن لموجب للمحبة أحد أمرين وكلاهما إذا اجتمع في شخص من خلق الله تعالى كان في غاية الكمال، الموجب الأوّل الحسن والجمال، والآخر الإحسان والإجمال، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع، فإنّ الإنسان بالضرورة يحب كل ما يستحسن، والإجمال مثل مثل جمال الله في حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تروق العقول وتهيج القلوب، وإنما يدرك جمال الله تعالى بالبصائر، لا بالأبصار، وأما الإحسان؛ فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر وإنعامه عليهم باطن وظاهر، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو في الحقيقة منه، وهو المستحق للمحبة وحده.
واعلم أن محبة الله إذ تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح من الجدّ في طاعته والنشاط لخدمته، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه والأنس بذكره، والاستيحاش من غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل من يحبه الله وإيثاره على كل من سواه، قال الحارث المحاسبي: المحبة تسليمك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك، ثم موافقته سراً وجهراً، ثم علمك بتقصيرك في حبه {ولو ترى} من رؤية العين و{الذين ظلموا} مفعول، وجواب لو محذوف وهو العامل في أن التقدير لوترى الذين ظلموا لعلمت أنّ القوة لله أو لعلموا أنّ القوة لله، ويرى بالياء، وهو على هذه القراءة من رؤيا القلب، والذي ظلموا فاعل، وأن القوّة مفعول يرى، وجواب لو محذوف والتقدير لو يرى الذين ظلموا أنّ القوة لله لندموا، ولاستعظموا ما حل بهم.

.تفسير الآيات (166- 167):

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}
{إِذْ تَبَرَّأَ} بدل من إذ يرون، أو استئناف والعامل فيه محذوف وتقديره اذكر {الذين اتبعوا} هم الآلهة أو الشياطين أو الرؤساء من الكفار والعموم أولى {الأسباب} هنا الوصلات من الأرحام والمودّات {أعمالهم حسرات} أي سيآتهم وقيل حسنتهم إذا لم تقبل منهم أو ما عملوا لآلهتهم.

.تفسير الآية رقم (168):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)}
{كُلُواْ} أمر محمول على الإباحة {حلالا} حال مما في الأرض، أو مفعول بكلوا أو صفة لمفعول محذوف أي: شيئاً حلالاً {طَيِّباً} يحتمل أن يريد الحلال {خطوات الشيطان} ما يأمر به، وأصله من خطوت الشيء. وقال المنذر بن سعيد: يحتمل أن يكون من الخطيئة ثم سهلت همزته، وقرئ بضم الطاء وإسكانها وهي لغتان.

.تفسير الآيات (169- 171):

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}
{بالسواء والفحشآء} المعاصي {وَأَن تَقُولُواْ} الإشراك وتحريم الحلال كالبَحِيرة وغير ذلك {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} رداً على قولهم: {بل نتبع...} الآية، في كفار العرب. وقيل في اليهود: أنهم يتبعونهم ولو كانوا {لاَ يَعْقِلُونَ} فدخلت همزة الإنكار على واو الحال {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ} الآية: في معناها قولان: الأول تشبيه الذين كفروا بالبهائم؛ لقلة فهمهم وعدم استجابتهم لمن يدعوهم، ولابد في هذا من محذوف، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون المحذوف أوّل الآية والتقدير: مثل داعي الذين كفروا إلى الإيمان {كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} أي يصيح {بِمَا لاَ يَسْمَعُ} وهي البهائم التي لا تسمع {إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} ولا يعقل معنى، والآخر: أن يكون المحذوف بعد ذلك، والتقدير: مثل الذين كفروا كمثل مَدْعُوِّ الذي ينعق. ويكون دعاء ونداء على الوجهين مفعولاً: يسمع والنعيق: هو زجر الغنم، والصياح عليها، فعلى هذا القول شبه الكفار بالغنم وداعيهم بالذي يزجرها وهو يصيح عليها، الثاني: تشبيه الذين كفروا في دعائهم، وعبادتهم لأصنامهم بمن ينعق بما لا يسمع، لأن الأصنام لا تسمع شيئاً، ويكون دعاء ونداء على هذا منعطف: أي أن الداعي يتعب نفسه بادعاء أو الندراء لمن لم يسمعه من غير فائدة، فعلى هذا شبه الكفار بالنعق {صُمٌّ} وما بعده راجع إلى الكفار وذلك غير التآويل الأول ورفعوا على إضمار مبتدأ.

.تفسير الآيات (172- 173):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}
{واشكروا} الآية: دليل على وجوب الشكر لقوله: {إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} {الميتة} ما مات حتف أنفه، وهو عموم خص منه الحوت والجراد، وأجاز مالك أكل الطافي من الحوت، ومنعه أبو حنيفة، ومنع مالك الجراد حتى تسيب في بيوتها بقطع عضو منها أو وضعها في الماء وغير ذلك، وأجازه عبد الحكم دون ذلك {والدم} يريد المسفوح لتقييده بذلك في سورة الأنعام، ولا خلاف في إباحة ما خالط اللحم من الدم {وَلَحْمَ الخنزير} هو حرام سواء ذُكِّي أو لم يذكَّ، وكذلك من حلف أن لا يأكل لحماً فأكل شحماً حنث بخلاف العكس {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ} أي: صيح لأنهم كانوا يصيحون باسم من ذبح له، ثم استعمل في النية في الذبح {لِغَيْرِ الله} الأصنام وشبهها {اضطر} بالجوع أو بالإكراه، وهو مشتق من الضرورة ووزنه افتعل، وأبدل من التاء طاء {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} قيل: باغ على المسلمين، وعاد عليهم، ولذلك لم يرخص مالك في رواية عنه للعاصي بسفره أن يأكل لحم الميتة، والمشهور عنه الترخيص له، وقيل: غير باغ باستعمالها من غير اضطرار وقيل: باغ أي متزايد على إمساك رمقه. ولهذا لم يجز الشافعي للمضطر أن يشبع من الميتة. قال مالك: بل يشبع ويتزوّد {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} رفع للحرج، ويجب على المضطر أكل الميتة لئلا يقتل نفسه بالجوع وإنما تدل الآية على الإباحة لا على الوجوب، وقد اختلف هل يباح له ميتة بني آدم أم لا؟ فمنعه مالك وأجازه الشافعي لعموم الآية.

.تفسير الآيات (174- 176):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
{إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ} اليهود {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} أي أكلهم للدنيا يقودهم إلى النار، فوضع السبب موضع المسبب، وقيل: يأكلون النار في جهنم حقيقة {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} عبارة عن غضبه عليهم، وقيل: لا يكلمهم بما يحبون {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} لا يثني عليهم {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} تعجب من جرأتهم على ما يقودهم إلى النار أو من صبرهم على عذاب النار في الآخرة، وقيل: إنها استفهام، وأصبرهم بمعنى صَبَرَهم، وهذا بعيد، وإنما حمل قائله عليه اعتقاده أن التعجب مستحيل على الله؛ لأنه استعظام خفي سببه، وذلك لا يلزم فإنه في حق الله غير خفي السبب {ذلك} إشارة إلى العذاب ورفعه بالابتداء أو بفعل مضمر {بِأَنَّ الله} الباء سببية {نَزَّلَ الكتاب} القرآن هنا {بالحق} أي بالواجب، أو بالإخبار الحق أي الصادق، والباء فيه سببية أو للمصاحبة {الذين اختلفوا فِي الكتاب} اليهود والنصارى، والكتاب على هذا التوراة والإنجيل، وقيل: الذين اختلفوا العرب، والكتاب على هذا القرآن، ويحتم جنس الكتاب في الموضعين {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي بعيد من الحق والاستقامة.

.تفسير الآية رقم (177):

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
{لَّيْسَ البر} الآية: خطاب لأهل الكتاب لأن المغرب قبلة اليهود، والمشرق قبلة النصارى: أي إنما البر التوجه إلى الكعبة، وقيل خطاب للمؤمنين أي ليس البر الصلاة خاصة، بل البر جميع الأشياء المذكورة بعد هذا {ولكن البر مَنْ آمَنَ} لا يصح أن يكون خبراً عن البر فتأويله: لكن صاحب البر من آمن، أو لكن البرّ برّ من آمن أو يكون البر مصدراً وصف به {وَآتَى المال} صدقة التطوّع، وليست بالزكاة لقوله بعد ذلك: وآتى الزكاة {على حُبِّهِ} الضمير عائد على المال لقوله: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] الآية وهو الراجح من طريق المعنى. وعود الضمير على الأقرب وهو على هذا تتميم وهو من أدوات البيان، وقيل يعود على مصدر آتى، وقيل على الله {ذَوِي القربى} وما بعده ترتيب بتقديم الأهم فالأهم، والأفضل لأن الصدقة على القرابة صدقة وصلة بخلاف من بعدهم. ثم اليتامى لصغرهم وحاجتهم ثم المساكين للحاجة خاصة، وابن السبيل الغريب، وقيل الضعيف، والسائلين وإن كانوا غير محتاجين، وفي الرقاب عتقها {والموفون بِعَهْدِهِمْ} أي العهد مع الله ومع الناس {والصابرين} نصب على المدح بإضمار فعل {فِي البأسآء} الفقر {والضرآء} المرض {وَحِينَ البأس} القتال {صَدَقُواْ} في القول والفعل والعزيمة.

.تفسير الآيات (178- 179):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}
{ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} أي شُرع لكم، وليس بمعنى فرض، لأن ولي المقتول مخيّر بين القصاص والدية والعفو، وقيل: بمعنى فرض أي: فرض على القاتل الانقياد للقصاص، وعلى ولي المقتول أن لا يتعداه إلى غيره؛ كفعل الجهلة. وعلى الحاكم التمكين من القصاص {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} ظاهرة اعتبار التساوي بين القاتل والمقتول في الحرية والذكورية، ولا يقتل حر بعبد، ولا ذكر بأنثى إلاّ أن العلماء أجمعوا على قتل الذكر بالأنثى، وزاد قوم: أن يُعطى أولياؤها حينئذٍ نصف الدية لأولياء الرجل المقتص منه؛ خلافاً لمالك وللشافعي وأبو حنيفة، وأما قتل الحرّ بالعبد فهو مذهب أبي حنيفة خلافاً لمالك والشافعي، فعلى هذا لم يأخذ أبو حنيفة بشيء من ظاهر الآية؛ لا في الذكورية ولا في الحرية لأنها عنده منسوخة، وأخذ مالك بظاهرها في الحرية كما في الذكورية، وتأويلها عنده: أن قوله: الحر بالحر والعبد بالعبد عموم يدخل فيه: الذكر بالذكر، والنثى بالأنثى والأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى، ثم تكرر قوله: والأنثى بالأنثى، تأكيد للتجديد، لأن بعض العرب إذا قتل منهم أنثى قتلوا بها ذكراً تكبراً وعدواناً، وقد يتوجَّه قول مالك على نسخ جميعها، ثم يكون عدم قتل الحرّ بالعبد من السنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل حرّ بعبد» والناسخ لها على القول بالنسخ: عموم قوله: {النفس بالنفس} [المائدة: 45] على أن هذا ضعيف، لأنه إخبار عن حكم بني إسرائيل {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} الآية: فيها تأويلان: أحدهما: أن المعنى من قتل فعفي عنه فعليه اتباع المعروف، وعلى القاتل أداء بإحسان، فعلى هذا: من كناية عن أولياء المقتول، وأخيه هو القاتل أو عاقلته، وعُفي بمعنى يُسرّ: كقوله: خذ العفو أي ما تيسر، ولا إشكال في تعدّي عفى باللام على هذا المعنى {ذلك تَخْفِيفٌ} إشارة إلى جواز أخذ الدية، لأن بني إسرائيل لم يكن عندهم دية. وإنما هو القصاص {فَمَنِ اعتدى} أي قتل قاتل وليه بعد أن أخذ منه الدية {عَذَابٌ أَلِيمٌ} القصاص منه وقيل: عذاب الآخرة {وَلَكُمْ فِي القصاص} بمعنى قولهم: القتل أنفى للقتل؛ أي أن القصاص يردع الناس عن القتل، وقيل: المعنى أن القصاص أقل قتلاً، لأنه قتل واحد بواحد بخلاف ما كان في الجاهلية من اقتتال قبيلتي القاتل والمقتول، حتى يقتل بسبب ذلك جماعة.

.تفسير الآية رقم (180):

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}
{الوصية للوالدين والأقربين} كانت فرضاً قبل الميراث ثم نسختها آية الميراث مع قوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» وبقيت الوصية مندوبة لمن لا يرث من الأقربين، وقيل معناها الوصية بتوريث الوالدين والأقربين على حسب الفرائض، فلا تعارض بينها وبين المواريث، ولا نسخ، والأول أشهر.

.تفسير الآيات (183- 185):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} أي: فُرِضَ، والقصد بقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} وبقوله: {أَيَّاماً معدودات} تسهيل الصيام على المسلمين، ومُلاطفة جميلة، والذي كتب على الذين من قبلنا الصيام مطلقاً، وقيل: كتب على الذين من قبلنا رمضان فبدلوه {أَيَّاماً} منصوب بالصيام وهو مصدر أو بمحذوف، ويبعد انتصابه بتتقون {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} الآية: إباحة للفطر مع المرض والسفر، وقد يجب الفطر إذا خاف الهلاك، وفي الكلام عند الجمهور محذوف يسمى فحوى الخطاب، والتقدير: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر فعليه عدّة من أيام أخر، ولم يفعل الظاهرية بهذا المحذوف فرأوا أنّ صيام المسافر والمريض لا يصح، وأوجبوا عليه عدّة من أيام أخر، وإن صام في رمضان، وهذا منهم جهلٌ بكلام العرب، وليس في الآية ما يقتضي تحديد السفر، وبذلك قال الظاهرية، وحدّه في مشهور مذهب مالك: أربعة بُرُد {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قيل: يطيقونه من غير مشقة فيفطرون ويكفّرون. ثم نسخ جواز الإفطار بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وقيل: يطيقونه بمشقة كالشيخ الهرم، فيجوز له الفطر فلا نسخ على هذا، {فَمَن تَطَوَّعَ} أي صام ولم يأخذ بالفطرة والكفارة، وذلك على القول بالنسخ، وقيل تطوّع بالزيادة في مقدار الإطعام، وذلك على القول بعدم النسخ.
{شَهْرُ رَمَضَانَ} مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر أو بدل من الصيام {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان، ثم نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بطول عشرين سنة، وقيل: المعنى أنزل في شأنه القرآن: كقولك أنزل القرآن في فلان، وقيل: المعنى ابتدأ فيه إنزال القرآن {هُدًى لِّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى} أي: أن القرآن هدى للناس، ثم هو من ذلك من مبينات الهدى، وذلك أن الهدى على نوعين: مطلق وموصوف بالبينات، فالهدى الأوّل هنا على الإطلاق، وقوله من البينات والهدى؛ أي: وهو من الهدى المبين، فهو من عطف الصفات كقولك: فلان علام وجليل من العلماء {فَمَن شَهِدَ} أي كان حاضراً غير مسافر، والشهر منصوب على الظرفية، واليسر والعسر على الإطلاق، وقيل: اليسرُ الفطرُ في السفر، والعسر الصوم فيه {وَلِتُكْمِلُواْ} متعلق بمحذوف تقديره شرع، أو عطف على اليسر {العدة} الأيام التي أفطر فيها {وَلِتُكَبِّرُواْ} التكبير يوم العيد أو مطلقاً.